سلامة القطاع المصرفي (اللواء ٢٨ تشرين الثاني)

لن يستطيع الاقتصاد اللبناني النمو من دون قطاع مصرفي تنافسي وفاعل. قبل التحديات الرقمية والمشفرة، هنالك حاجة للقطاع لتسيير أمور المواطن في الاقتراض العادي لشراء المسكن أو السيارة أو غيرهما من الخدمات والسلع. قبل تحديات الذكاء الاصطناعي وغيره من الأمور التقنية المتطورة، هنالك حاجة لقطاع سليم يوحي بالثقة ليجذب الودائع ويوظفها لصالح أصحابها. هنالك ورشة مصرفية كبرى ستجري في لبنان عاجلا أم آجلا، الهدف منها خلق الأطر القانونية والتقنية التي تسمح لقطاع مصرفي جديد بخدمة الاقتصاد. القطاع المصرفي الحالي غير قادر على النهوض ومن الضروري اجراء تعديلات على القوانين تسمح بتأسيس قطاع صلب وسليم.
من أهم الأهداف تأسيس مصارف تجارية تطمئن المواطن على ودائعه وتحسن خدمته. يتميز كل قطاع مصرفي بما يعرف بالخطر المشترك Systemic Risk، اي أن افلاس مصرف ما يعرض كل القطاع الوطني للافلاس. لا يمكن لأي مصرف ان يعمل في أجواء عدم ثقة به، وبالتالي بالقطاع ككل. يمكن للعدوى أن تنتقل من قطاع وطني الى آخر عبر العلاقات الاقتصادية والمالية بين دولتين. العدوى المصرفية يمكن أن تكون خطيرة وأن تنتقل بسرعة تماما كما حصل في أميركا اللاتينية وشرق اسيا.
لا يجب أن يكون هنالك هدف رقمي لعدد المصارف اللبنانية التجارية المتنافسة، اذ أن الأهم هو سلامة المصارف. من الخطاء التفكير بأن المصرف الكبير أفضل أو أسلم من الصغير، وهنالك تجارب كبرى حتى في لبنان أثبتت أن المصارف الكبرى تكون أحيانا أخطر تبعا لنوعية الادارة وكفائتها. الحجم لا يعني السلامة وربما العكس صحيح أحيانا. لذا من المرجح أن يتم هنالك دمج للمصارف شرط أن تبقى المنافسة قوية بعد الدمج. من الخطاء جعل المصرف الكبير يأكل الصغير، بل ربما العكس مطلوب أحيانا. فالمصرف الصغير السليم مع زيادات في رأس ماله يمكن أن يستوعب مصرفا متوسطا أو كبيرا وهذا جيد جدا. مجددا الحجم لا يشير الى السلامة، وبالتالي تشجيع المصارف على الدمج يمكن أن يكون عبر مصرفين صغيرين أو مصرفين كبيرين أو لا يكون. فورشة العمل المنتظرة والحتمية ستكون حتما صعبة وفي غاية الدقة لأن المواطن اللبناني تعب اليوم ولا يتحمل التجارب الجديدة غير المدروسة.
فالذي فصل أساسا بين الموقعين المصرفيين التجاري والاستثماري عالميا هو قانون اميركي يدعى غلاس-ستيغل Glass-Steagallتبعا للمسؤولَيْن اللذَيْن وضعاه سنة 1933، وأعتمدته معظم الدول. أهمية القانون الأميركي انه يمنع على المصارف استعمال الودائع للاستثمار مباشرة في الأسواق المالية. المصرف التجاري يأخذ الودائع ويقرضها للقطاع الخاص ضمن شروط السلامة المالية حماية للودائع وأصحابها ويجب أن نبقى في لبنان معتمدين لهذا الفصل حماية للنمو والسلامة.
تدل الوقائع على حدوث 35 أزمة مصرفية وطنية في العقود القليلة الماضية مما يشير الى ضعف الرقابة الرسمية والى التعقيد الحاصل في عملها. بعض المصارف العالمية أقرض الى الشركات أو الدول ذات المخاطر العالية لرفع الربحية، وبالتالي وضع نفسه في موقع خطر. ما الافلاسات التي حصلت الا دليل واضح على سؤ الادارة المصرفية. تبقى الرقابة الرسمية على القطاع دائما مطلوبة لتجنب الحوادث المكلفة.
معظم التمويل الخارجي للشركات يأتي من المصارف حتى في الدول الصناعية، وذلك بالرغم من تطور اسواقها المالية المتنوعة. ما الذي تقدمه المصارف وتعجز عنه اسواق الاسهم والسندات والأسواق المشتقة وغيرها؟ العلاقة القريبة بين المصرف والمقترض تبقى استثنائية ومميزة. فالاقتراض من المصرف اسهل وأفعل ويساهم في بناء علاقة فريدة تعجز عنها الأسواق الكبيرة. من الصعب أيضا على الأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة الحصول على التمويل من الاسواق المالية الواسعة. في الولايات المتحدة مثلا، 25% من تمويل الاستثمارات يأتي من المصارف، 28% في فنلندا، 37% في فرنسا، 28% في ايطاليا، 50% في اليابان وما يقارب ال 100% في الدول النامية ومعظم الناشئة.
اذا كان الدور المصرفي بهذه الاهمية، ما هي المواضيع التي على السلطات المصرفية الوطنية الاهتمام بها لتسهيل العلاقة بين المصرف من جهة والمواطن والشركة من جهة أخرى؟ هنالك أهمية كبرى للمنافسة مما يوسع الخيارات أمام الزبائن ويخفض تكلفة الاقتراض. ضعف المنافسة يساهم في خلق قطاع غير صحي وغير متجدد، وبالتالي غير قابل للحياة والاستمرارية. في معظم القطاعات المصرفية الوطنية، هنالك قلة من المصارف تسيطر على القطاع وتتحكم بالخدمات والأسعار وبالتالي بالمواطن.
للتخفيف من مخاطر السوق، المطلوب رقابة جيدة وضمان مؤكد للودائع المتوسطة والصغيرة وتطبيق صارم ودقيق للاتفاقيات الدولية الحذرة من عمليات تبييض الأموال وتمويل الارهاب. للأسف وبالرغم من الرقابة الدولية الصارمة يستطيع رأس المال غير الشرعي ايجاد منافذ تسمح له بتمويل الممنوعات. أخيرا يؤثر تطور التكنولوجيا على العمل المصرفي من ناحيتي السرعة والتكلفة، اي لم يعد ضروريا على المصرف أن يتواجد في كل مكان. تخفيض تكلفة العمل يجب أن يكون الشغل الشاغل لاصحاب ومدراء المصارف مما يساهم في حماية الودائع وتحسين أوضاع الموظفين.



