أخبار لبنانإقتصادابرز الاخبار

زيارة البابا… بريق رجاء للبنان واقتصاده (الجمهورية ٢٨ تشرين الثاني)

تكتسب زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، بُعداً رمزياً واستراتيجياً عميقاً، في بلدٍ يتخبّط بين أزمة وأخرى، فمن الانهيار المالي، والشلل المؤسّسيّ، والصدمة التي لا تزال حيّة في الأذهان جرّاء انفجار مرفأ بيروت، تبدو زيارة أسقف روما بمثابة دعوة قوية للسلام والاستقرار، والمسؤولية الجماعية.

ستكون هذه الأيام المباركة أكثر من مجرّد زيارة راعوية، إذ تُعدّ هذه الرحلة لفتة تجاه شعب منهك… لكنّه صامد، وتذكيراً بأنّ السلام ليس مجرّد قيمة روحية، بل شرط حقيقي للانتعاش الإقتصادي، إعادة البناء الاجتماعي، والثقة في المستقبل الذي يُبنى على رجاء راسخ.

ستُشدّ أنظار العالم في أول زيارة حبرية رسمية خارج أوروبا، إذ سيلتقي البابا لاوون الرابع عشر بأعلى السلطات في البلاد في سياق الجمود المؤسسي، والتوترات المستمرّة. فتُعبّر هذه اللقاءات عن الرغبة في التذكير بأهمّية الحوار، والمسؤولية العامة، والتشديد على أنّ السلطة هي أداة لخدمة الخير العام. وفي تواتر الاجتماعات في اليوم الثاني، يبرز لقاء الحبر الأعظم مع الشبيبة، فهم بحسب فكره لا يمثّلون المستقبل وحسب، بل الحاضر نفسه، وستُنفّذ كلماته المُلهمة قلوب شباب وشابات الذين سيحملونها معهم على درب بناء وطنهم الذي يحبّونه.

في التفاصيل، قد تكون الزيارة الخاطفة ولحظة الصلاة الصامتة في مرفأ بيروت، مكان انفجار 4 آب 2020، واحدة من أقوى اللفتات في هذه الرحلة. فهي تكرّم الضحايا، وتدعو في الوقت نفسه إلى إعادة الإعمار المادّي والمعنوي لبلد لا يزال يحمل آثار هذه المأساة. سيلي هذه الصلاة قدّاس احتفالي، الذي يسبقه قبل يوم لقاء بالبطاركة والأساقفة والكهنة والرهبان، مذكّراً بالمهمّة الأساسية التي لطالما اضطلعت بها الكنيسة في البلاد، أي التعليم، وإدارة المستشفيات والتماسك الاجتماعي وثقافة الحوار، وهي بدورها داعم أساسي للنموّ الاقتصادي، بوجهٍ مباشر أو غير مباشر.

هكذا، وفي بلد شهد انهياراً نقدياً وهجرة للمواهب الشابة، وتدهوراً في الخدمات العامة، وانخفاضاً حاداً في الناتج المحلّي الإجمالي، الذي أدّى إلى اضطراب الحياة اليومية، فإنّ السلام ليس مفهوماً مجرّداً، أو شعاراً يُزيّن اللوحات الإعلانية على الطرقات التي عُبِّدت بالزفت حديثاً لتليق بمقام زائرنا الحبيب.

على رغم من أنّ شخصية روبرت فرنسيس بريفوست المرسلة، وحياته المكرّسة الأصيلة، تسمح له أن يسير على طرقاتنا الاعتيادية، لا بل الأسوأ منها. فمنذ لحظة انتخابه على رأس إدارة الكنيسة الكاثوليكية، انتشرت صوره في البيرو، بجزمة طويلة، يكتشف حال رعيّته في «واقعها» بعد أن غمرتها مياه الفيضانات.

لا ندري كيف ستُنقل صورة لبنان الحقيقي في هذه الأيام الخاطفة، وكيف لنا أن نربط واقعنا، بحالة البيرو، الذي قد يُعدّ سابقة ملهمة للبنان. فالأسقف بريفوست عاش هناك 9 سنوات، كانت كفيلة بأن تجعله «من أهل البلد». فالبيرو، مثل لبنان، بلد يتّسم بهشاشة اقتصادية كبيرة، وتفاوتات اجتماعية عميقة، وعدم استقرار سياسي مزمن، ومجتمعات ضعيفة غالباً ما تتخلّى عنها الدولة. في حين تأتي الكنيسة مرسلة لتبني الجسور وتُرمِّم الجروح، وتدعو إلى السلام الحقيقي.

إنّ هذا السلام الفاعل هو الشرط الأول لإنعاش اقتصاد بلد الأرز، إذ لا يُخفى على أحد بأنّ الاستقرار «المنتظر منذ سنوات» يجذب المستثمرين ويُعيد الثقة إلى الأسواق. أمّا الأمن فيُعيد تنشيط السياحة، وهي قطاع أساسي لديناميكية الاقتصاد اللبناني. وأبعد من ذلك، يبحث لبنان عن السلام الاجتماعي الذي يُعيد القدرة على توقّع ملامح المستقبل، وهو أمر شديد الأهمّية لدى الشركات، المنظّمات غير الحكوميّة، المدارس، والمستشفيات. تلك الأخيرة التي لم تغِب عن أجندة البابا في لبنان. فزيارته لمستشفى الصليب للأمراض النفسية، تؤكّد مرّةً أخرى أنّ السلام لا يُفرَض؛ بل يُعالج ويُعاد بناؤه ويُزرع إنسانياً، وأنّه لا يُبنى على حساب الأشدّ ضعفاً والأفقر، بل يوجّه كلّ شيء وخصوصاً الاقتصاد ليكون «تفضيلياً» لمصلحتهم.

على الصعيد الداخلي، حبّذا أن تكون الزيارة مصدراً يعزّز التماسك الوطني الذي يُقلّل من تكلفة الصراع، وغالباً ما تكون آثاره غير مرئية، لكنّها تُسبِّب توتر الجوّ العام، انخفاضاً بالإنتاجية، وتآكل النسيج الاقتصادي، الأمر الذي يُزعزع التعايش والسلام. كذلك، تُعدّ لفتة البابا إشارة قوية موجّهة إلى المجتمع الدولي، إذ لا يزال لبنان أرضاً للتعدّدية والإمكانات البشرية، وهو يستحق «مزيداً» من الدعم في عملية الاستقرار والانتعاش، كما أوصانا سلفه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، بأن نحافظ على «لبنان الرسالة».

في العودة إلى البابا الأميركي-البيروفي، فقد أدّى دوراً حاسماً في إعادة تركيز النقاش الوطني في البيرو على 3 ركائز أساسية لإعادة الإعمار. الأولى، هي الكرامة الاجتماعية كمحرّك اقتصادي، فأثناء لقاءاته مع السلطات البيروفية، شدّد على ضرورة بناء اقتصاد قائم على العدالة الاجتماعية، الشفافية، ومكافحة الفساد، وهي للأسف، قضايا يعرفها لبنان كثيراً. وقد شجّعت هذه الرسالة المؤسسات، والمنظّمات المدنية، والجهات الفاعلة الاقتصادية، على إجراء حوار جديد بشأن الحَوكمة والعدالة.

أمّا الركيزة الثانية، فكانت دعم الفئات الضعيفة، إذ زار المناطق المحرومة، مذكّراً بأنّ النموّ الاقتصادي لا يمكن أن يكون حقيقياً إذا لم يستفِد منه الأكثر ضعفاً. فأدّت مبادرته، إلى زيادة تعبئة المنظّمات غير الحكومية الدولية، وشراكات التنمية، ولا سيّما في قطاعات الصحة، والتعليم، والبنى التحتية المحلّية.

والركيزة الثالثة والأخيرة، كانت التأثير على الثقة الوطنية، فأعادت إحياء الشعور بالتماسك، وعزّزت ثقة المجتمعات الأصلية والشباب، وشجّعت الفاعلين السياسيّين على الانخراط في حوار وطني بدلاً من المواجهة.

إنّ هذه الآثار مجتمعة هي بالضبط ما يحتاجه لبنان اليوم. فإذا كان بلد في أميركا اللاتينية، يعاني من عدم الاستقرار والفقر، قد استفاد من دفعة جديدة بفضل الزخم الذي يولّده حضور البابا، فإنّ لبنان يمكن أن يأمل في تأثير مماثل على المدى القريب والمتوسط.

ختاماً، قد لا تحلّ زيارة البابا لاوون الرابع عشر الأزمة الاقتصادية في لبنان بوجهٍ جذري، و»يشفيه» من التحدّيات الهيكلية التي يواجهها، لكن نرجو أن تُعيد زيارته إقلاع محرّك الثقة، وحشد المجتمع المدني، وتذكير المؤسسات بواجبها في الشفافية والعدالة.

هذا ما نرجوه مع ختام سنة الرجاء، رجاء بأن يُصبح السلام ممكناً مرّة أُخرى، وأن يتبعه الانتعاش الاقتصادي، والاستقرار المؤسسي، وتعمّ الكرامة الإنسانية. ولتكن هذه الزيارة البابوية المباركة بداية فصل جديد من الفرح والسلام… لنُصلِّ معه على طول حضوره بيننا، وخصوصاً في زيارته قبر القدّيس شربل، رمز النور والشفاء الداخلي. وهذا ما نحتاجه أشدّ الاحتياج للبنان موطن القدّيسين، وموطن السلام المرجوّ.

بواسطة
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ
المصدر
الجمهورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى