ابرز الاخبارالاقتصاد العربي والدولي

5 أعوام على ‘بريكست‘… غربة بريطانيا ‘الأزليّة‘ عن أوروبا

ثمة بعض الأمور التي قد لا تتغير... ولو مع آلاف السنين

“معاهدة المستقبل التي تناقشونها ليس لديها أي فرصة لنيل الموافقة عليها، وإذا نالت الموافقة، فلن تحصل على فرصة التطبيق. وإذا ما طُبّقت فستكون غير مقبولة على الإطلاق لبريطانيا. السيد الرئيس، إلى اللقاء وحظاً سعيداً”.

بعض الأمور لا تتغير. ليس أدلّ على ذلك من عبارة الوداع تلك. لقد وجّهها الديبلوماسي البريطاني راسل بريثيرتون إلى مؤتمر ميسينا الذي أسس اللبنات الأولى للنشوء التدريجي للاتحاد الأوروبي. كان ذلك سنة 1955. أي قبل نحو 60 عاماً من تنظيم المملكة المتحدة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست).

قبل 10 آلاف عام

اليوم، تستعيد المملكة المتحدة الذكرى الخامسة للخروج رسمياً من الاتحاد الأوروبي. كما يتبين من عبارة بريثيرتون، لم يكن البريطانيون قط مرتاحين جداً حيال دورهم في الاتحاد الأوروبي. وكان ذلك واضحاً إلى حد كبير مع رفضهم اعتماد العملة الأوروبية الموحدة. مظلة حقوق الإنسان وحكم القانون والحرية الفردية لم تكن كافية ليشعر كل سكان المملكة المتحدة بأنهم جزء من عائلة واحدة مع الأوروبيين. (الاسكتلنديون والآيرلنديون الشماليون صوتوا لمصلحة البقاء لكن إنجلترا وويلز الأكبر من حيث المساحة وعدد السكان صوتتا لمصلحة المغادرة).

إيان موريس، مؤرخ في جامعة ستانفورد، قال إن “بريكست” بدأ قبل نحو 10 آلاف عام، حين راحت المياه الناجمة عن ذوبان الجليديات تفصل بين بريطانيا وأوروبا. حتى حين بدأت روما تحكم إنجلترا وويلز قبل نحو 2000 عام، كان السكان منقسمين بين ما إذا كان النفوذ القارّيّ عليهم مصدر نعمة أم نقمة.

حاول مسؤولون بريطانيون لاحقاً رسم صورة لمواطنيهم عما هم مقبلون عليه في علاقتهم مع أوروبا. الديبلوماسي الراحل السير روي دنمان (1924-2006) الذي ساعد على دخول المملكة المتحدة السوق المشتركة سنة 1973، كتب في مطلع الألفية: “نحن سعداء بترتيب تجاري، بسوق مشتركة. لكن لن يكون لنا وزن حتى نُقدِم على التزام سياسي. لم نواجه قط واقع أنه سيكون علينا مقايضة القوة بالقوة”. كان دينمان هو الذي ذكر في كتابه جملة بريثيرتون في مؤتمر ميسينا.

الندم موجود… لكن هل يمكن تسييله؟

لم تعنِ كل هذه التطورات أن تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي كان حتمياً. في الأساس، كان موضوع الاستفتاء عبارة عن محاولة من رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون استرضاء أقصى اليمين في حزبه “المحافظين” ممن شككوا بالمشروع الأوروبي، فيما كان يراهن على أن البريطانيين سيختارون البقاء ويروج لهذا الخيار. من جهة أخرى، لم يكن الفارق كبيراً بين مؤيدي البقاء والمغادرة كبيراً (52-48). هذا مع اعتقاد البعض بأن المعلومات المضللة التي روج لها زعيم حملة الخروج نايجل فاراج، (مثل أنّ بريطانيا تدفع 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً لبروكسل وأنه يجب تحويلها إلى الرعاية الصحية العامة) ساهمت في رسم هذه النتيجة.

كذلك، تظهر استطلاعات الرأي بشكل منتظم أن الشعب البريطاني ليس نادماً على خيار المغادرة وحسب بل هو يظهر ندماً على نحو متزايد بمرور الأعوام. سنة 2024، وفي ما وصفته صحيفة “وول ستريت جورنال” بأنه “بريغريت” (مزيج من كلمتي “خروج” و”ندم” بالإنكليزية)، بلغت نسبة الذين قالوا إن مغادرة الاتحاد كانت قراراً خاطئاً نحو 65 في المئة بينما بلغت نسبة من وافقوا عليه 15 في المئة. وبحسب آخر استطلاع نشرته “يوغوف” الأربعاء الماضي، تدنت نسبة مؤيديه إلى 10 في المئة. ويعتقد فقط 2 في المئة أن “بريكست” كان إيجابياً لـ “الخدمة الصحية الوطنية”.

استعرضت مجلة “إيكونوميست” في ربيع 2024 أسباب ذلك الندم ومن بينها تردي الوضع الاقتصادي وغياب النزاهة لدى حملة المغادرة والفوضى التي سادت الحكومات البريطانية المتعاقبة وارتفاع الهجرة بدلاً من انخفاضها وغيرها.

“لا تواجهوه”

لا يُترجم هذا الندم بمحاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يدرك البريطانيون صعوبة مفاوضات العودة إلى الاتحاد، ولهذا السبب، يبدون مترددين في الإقدام على هذا المطلب. حتى أن هناك فئة منهم (38-40) تعتبر أن حزب العمال لم يحصل على تفويض للانضمام مجدداً إلى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي، مع أن 45 في المئة قالوا إن الحزب الحاكم يملك تفويضاً للتقارب مع بروكسل. وعلى أي حال، هذا ما أعلنه رئيس الوزراء كير ستارمر بعد فوزه بالانتخابات الصيف الماضي، علماً أن كارمر كان مع إعادة تنظيم استفتاء ثانٍ لعودة الانضمام إلى الاتحاد.

ويعتقد ديفيد فروست من “تلغراف” أن المشاكل التي يعاني منها البريطانيون كانت موجودة قبل “بريكست”، ويضيف أن البريطانيين باتوا الآن قادرين على التعامل معها بحرية، كما مع التحديات الدولية، من دون العودة إلى بروكسل.

يبدو أن بريطانيا تتكيف نفسياً مع وضعها الجديد: مهما تكن النظرة إلى الماضي، فالعودة إلى الوراء شبه مستحيلة، على الأقل في المدى المنظور. وعلى أي حال، قد لا يكون قرار العودة مرتبطاً بهم وحدهم. سيكون لبروكسل شروطها الخاصة في حال نظم البريطانيون استفتاء ثانياً. في العمق، يبدو أن قسماً كبيراً من البريطانيين يشعر بأن ثمة ما يميزه إلى حد ما عن جيرانه الأوروبيين، وإن كان يفضل أفضل العلاقات معهم. قد يكون هذا الشعور لب المسألة. في 2019، وتعليقاً على أحداث دولية عدة من بينها “بريكست”، كتب الأستاذ في هارفارد ستيفن وولت النصيحة التالية: “لا يمكنكم هزيمة الشعور القومي. لذا توقفوا عن المحاولة”.

من الصعب التعامل مع الشعور القومي كسبب وحيد في الطريق إلى “بريكست”. لكن استبعاده كلياً من المعادلة يبدو أصعب.

بواسطة
جورج عيسى
المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى