صعود أسواق الملابس المستعملة في لبنان: التزام بيئي واستهلاك مستدام
في غرفة تتّخذ منها مشغلًا داخل منزلها في بلدة كوبّا – البترون، تُعطي مصمّمة الأزياء ريتا طانيوس حياة جديدة لنسيج قديم. ستائر، قمصان، ملاءات… جميعها تتحوّل بين يديها أكياس تسوّق قماشيّة (tote bags) وقطع أزياء فريدة تضجّ بالحياة، في مبادرة ملتزمة أخلاقيًا تجاه #البيئة، ترى فيها فرصة لتصميم إبداعيّ فريد.
في السنوات الأخيرة، برز “النمط الاستهلاكي في قطاع الملابس” كمحرّك رئيسيّ لتغيّر المناخ، إذ يحتلّ مفهوم “#الموضة السريعة” [1] (Fast fashion) مركز الأزمة البيئية هذه، وهو مصطلح اكتسب شهرة واسعة في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثانية. وقد أدّى سعي صناعة الأزياء المستمرّ نحو السرعة والتكلفة المنخفضة إلى مستويات غير مسبوقة من انبعاثات الغازات الدفيئة، واستنزاف الموارد، وتوليد النفايات.
إعادة استخدام بشكل إبداعي
ترى ريتا في الموضة “المفروضة علينا” من قِبَل العلامات التجارية الكبرى “قصاصًا يجب مواجهته” بالنظر إلى التكاليف العالية المترتّبة على مواكبة صيحات الموضة الدوريّة من جهة، وصعوبة إعادة تدوير الأزياء القديمة محلّيًّا من جهة ثانية. هكذا وُلدت فكرة إعادة الاستخدام بشكل إبداعي (upcycling)، أي تحويل المواد القديمة أو غير المستخدمة إلى شيء جديد وذي قيمة أعلى أو جمالية أكبر، من دون أيّ تدخّل كيميائي وتفكيك المادة إلى عناصرها الأساسيّة. هكذا يتحوّل قميص قديم إلى حقيبة يد وتتحوّل ستارة إلى فستان.
يهدف مفهوم الـ upcycling إلى تحسين قيمة المواد القديمة عبر الإبداع في إعادة استخدامها، مع تقليل النفايات وإنتاج سلع جديدة، وعادة ما يكون المنتَج الجديد ذا جودة أعلى أو مصمّم بشكل فريد مقارنةً بالمنتج الأصلي. ويختلف الأمر عن #إعادة التدوير التقليدية (recycling)، أي عملية تحويل النفايات أو المواد غير المرغوب فيها إلى مواد خام يمكن استخدامها لصنع منتجات جديدة، وقد يكون المنتج المُعاد تدويره أقلّ جودة أو مماثلًا للمنتج الأصلي.
“موضة سريعة” وأرقام مقلقة
من تكثيف إنتاج الكربون للألياف الصناعية إلى الكميات الهائلة من نفايات الأنسجة التي تغمر المكبّات، تترك كلّ مرحلة من دورة حياة الملابس بصمة كربونية كبيرة. هذا النموذج، الذي تقوده علامات تجارية بارزة، لم يُعِد تشكيل سلوك المستهلكين فحسب، بل سرّع أيضًا من تأثير الصناعة على البيئة.
تساهم صناعة الأزياء في انبعاث يقدّر بنحو 2,1 ملياري طن متري من الغازات الدفيئة سنويًّا. وإذا لم تُتَّخَذ إجراءات جدّية للتخفيف، فقد ترتفع هذه الانبعاثات إلى 2.7 ملياري طن متري بحلول عام 2030، وفق تقرير لشركة الاستشارات الإدارية الأميركية “مكنزي وشركاؤه”؛ بينما تتوقّع الأمم المتحدة ارتفاعًا بنسبة 50 في المئة من الانبعاثات بحلول العام 2030، محذّرة من أنّ “صناعة الأزياء تستهلك طاقة تفوق صناعات الطيران والشحن مجتمعة”.
تلوّث واستهلاك مفرط للمياه
من جهة ثانية، تُعدّ صناعة النسيج واحداً من أكثر القطاعات استهلاكًا للمياه، إذ تستخدم نحو 93 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا. على سبيل المثال، يتطلّب إنتاج زوج واحد من “الجينز” نحو 8 آلاف لتر من المياه، على ما ذكرت الأمم المتحدة، أي ما يُعادل الكمّية التي يشربها الإنسان على مدى سبع سنوات. حتى إنّ القميص القطنيّ البسيط يتطلّب ما يقرب من 3 آلاف لتر من الماء. علاوة على ذلك، قدّر تقرير نشره البرلمان الأوروبي أنّ إنتاج النسيج مسؤول عن نحو 20 في المئة من تلوث المياه العذبة عالميًّا نتيجة عمليات صباغة وتبييض المنتجات. كما أنّ حمولة غسيل واحدة من الملابس المصنوعة من “البوليستر” يمكن أن تُطلِق 700 ألف من الألياف البلاستيكية الدقيقة التي قد تنتهي في السلسلة الغذائية، الأمر الذي ينبّه منه تقرير لمنظمة “غرينبيس” البيئية في الدول التي تفتقر إلى أنظمة حديثة وكافية لمعالجة مياه الصرف الصحي.
كما أدّى نموذج الموضة السريعة إلى مضاعفة إنتاج الملابس منذ عام 2000. فعلامات الموضة السريعة تُعزّز الإفراط في الإنتاج من خلال طرح مجموعات جديدة متعدّدة بشكل سنويّ، وغالبًا ما تُقدّم سلعًا جديدة أسبوعيًّا، وهو ما تنتج عنه كميات هائلة من النفايات، إذ ينتهي المطاف بـ87 في المئة من جميع ألياف الملابس في مكبات النفايات أو تُحرق، وفق ما بيّنت أرقام برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومؤسسة إيلين ماك آرثر التي تُشجّع على الانتقال نحو الاقتصاد الدائري، وهو نموذج اقتصادي يسعى إلى إنشاء نظام مستدام يعمل بشكل دائري أي أنّه يهدف إلى تقليل النفايات والاستهلاك المفرط عن طريق إعادة استخدام الموارد والمنتجات لأطول فترة ممكنة عبر إعادة تدويرها أو إصلاحها أو إعادة استخدامها بطرق مبتكرة، ما يقلّل من الحاجة لاستخدام موارد جديدة ويحافظ على البيئة.
“شبه معدومة”… أين #لبنان من إعادة التدوير؟
تنشط حركة إعادة الاستخدام بشكل إبداعي في الدول التي تفتقر إلى معامل إعادة التدوير والتحفيزات الحكومية والسياسات الملائمة. ويمكن لهذا النهج أن يُنفَّذ على مستوى الأفراد والمجتمعات المحلية بسهولة أكبر من إعادة التدوير التقليدية، لأنه لا يتطلب بنية تحتية متقدمة أو استثمارات كبيرة. لذلك، فالـ upcycling حلّ عمليّ مستدام في البيئات التي تفتقر إلى الدعم الرسمي لعمليات إعادة التدوير، وحيث يصعب تنفيذ المعالجة المعقدّة بشكل فعّال بسبب نقص البنية التحتية والدعم الحكومي، كما في لبنان، “لكنّه لا يعوّض عن إعادة التصنيع”، وفق المهندس البيئي زياد أبي شاكر، مشيرًا إلى أنّ ثقافة شراء المستعمل والمعاد تصنيعه لم تُعَمّم بعد في المجتمع اللبناني، بالإضافة إلى أنّ مبادرات الـupcycling لا تزال خجولة نسبيًّا. “قد تُساهم إعادة الاستخدام بشكل إبداعي في تخفيف التخلّص من النسيج في المطامر لكنّ الحلّ هو إنشاء معمل إعادة تدوير الألبسة”.
يعتبر أبي شاكر أنّ إعادة تدوير الملابس بمعناها التقليدي في لبنان “تقريبًا شبه معدومة، في غياب المعامل المخصّصة لمعالجة النسيج وإعادة تصنيع سلع جديدة منها”. ويتحدّث لـ”النهار” عن تحديات رئيسية تُعيق إعادة التدوير لبنانيًّا، أبرزها أنّ “الملابس لم تعد جميعها قطنيّة بنسبة 100 في المئة، إذ دخلت الأسواق الأنسجة الصناعية والبوليستر والبلاستيك”. هذا الواقع “يفرض اختراع طريقة إعادة تدوير يمكن تطبيقها في آنٍ على القطنيات والصناعة”، يقول، “لذلك أعتقد أنّ هذه الصناعة لم تبدأ بعد في لبنان”.
كيف يتمّ التعامل مع الثياب القديمة؟ “غالبيّتها ينتهي بها المطاف في المطامر”، يشرح أبي شاكر، “ثمّة جمعيات تُعيد إحياء الثياب وبيعها في سوق الملابس المستعملة أو “الفريب/البالة”، لكنّها لا تستطيع التعامل مع العدد الهائل من السلع القماشية ولا تعمل على إعادة التدوير”.
فرص سانحة ودور “محوريّ” للحكومات
ليست التحديات التي تواجه صناعة إعادة التدوير في لبنان فريدة من نوعها، بل هي جزء من مشكلة أوسع تعاني منها دول عدّة. على رغم أهمّية هذه الصناعة في الحفاظ على البيئة والموارد، إلا أنها غالبًا ما تواجه عقبات كبيرة تعيق نموها.
“في لبنان، كما في غيره من البلدان، إذا لم تُفرض الضرائب على عدم التدوير لتشجيع هذه الصناعات، تبقى غير قادرة على النهوض بنفسها”، يؤكّد أبي شاكر، ويُعدّد مجموعة حوافز ضرورية مثل قروض ميسّرة، إعفاءات ضريبية، منح حكومية، دعم تقني، وتسهيلات قانونية لتشجيع الاستثمارات في هذا القطاع. “ولهذا، نجد أن وضع إعادة التدوير في العالم متردٍّ وغير مستدام، لأنّ الحكومات لا تهتم به بشكل مباشر”.
في ظلّ الأزمات التي تعصف بلبنان، تبرز الفرص لتطوير صناعات محلية، وخاصة في مجال إعادة التدوير. فإعادة الاستعمال تُقلّل من الحاجة إلى شراء المواد الخام، وهنا يأتي دور الحكومات والبلديات والسياسات المحلية. إذا كانت تكلفة إعادة التدوير المحلي أعلى من تكلفة استيراد المواد الخام، فإنّ ذلك يحدّ من الفائدة الاقتصادية. “لذلك، من الضروري أن تدعم الحكومات صناعات إعادة التدوير لتتمكن من الحفاظ على تنافسية أسعار منتجاتها مقارنة بالمواد الخام المستوردة”، بحسب أبي شاكر. ولا يقتصر هذا على الملابس فقط، بل يشمل أيضًا البلاستيك والزجاج وإنتاج السماد المحلي من النفايات العضوية، “جميعها تمثّل فرصًا اقتصادية مهمّة يمكن أن تعزّز الناتج المحلي الإجمالي في دول مثل لبنان”.
نحو نموذج غير استهلاكي
تؤدّي الحكومات دورًا محوريًا في تعزيز إعادة التدوير من خلال سياسات فعالة. على سبيل المثال، يمكنها إنشاء حوافز مالية، حيث تتلقى الصناعات التي تثبت أنها تعيد تدوير كميات محددة من البلاستيك دعمًا ماديًا لكل طن تُنتجه. يرى أبي شاكر أنّ “هذا النوع من الدعم المباشر يقلّل من احتمالية الفساد، لأنه يتطلب الكشف عن الكميات المعاد تدويرها وتلك المنتجة، مع مراعاة الخسائر الإنتاجية في المعامل. ويمكن تمويل هذه المبادرة من خلال فرض ضرائب على المواد الخام المستوردة، ما يعزز من الجدوى الاقتصادية لإعادة التدوير”.
أمام مروحة التحديات والفرص، يبقى صعود أسواق الملابس المستعملة في لبنان علامة فارقة في الجهود الرامية إلى تعزيز الاستهلاك المستدام والتزام بيئي جادّ. من خلال الابتكار في إعادة الاستخدام بشكل إبداعي، يمكن للبنان أن يعيد صياغة علاقته مع الموضة، بعيدًا عن الإفراط في الاستهلاك نحو نموذج اقتصادي دائري أكثر استدامة.
ومع تفاقم آثار تغير المناخ وتزايد الطلب على الحلول البيئية المبتكرة، يجب أن تحظى مبادرات مثل إعادة التدوير وتطوير أسواق الملابس المستعملة بالدعم اللازم من السياسات الحكومية والمجتمع المدني. فقط من خلال تكامل هذه الجهود يمكن للبنان أن يحقق تحولًا جذريًّا في أنماط استهلاكه، ما يسهم في الحدّ من التأثير البيئي للصناعات التقليدية وتعزيز الاستدامة على المدى الطويل.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “الإعلام و#التغير المناخي والقضايا البيئية” بالتعاون بين مؤسسة مهارات و مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية.
[1] بدأ المصطلح يكتسب شهرة في أوائل العقد الأول من الألفية الثانية، خاصة مع التوسع السريع لعلامات تجارية مثل “زارا” و”إتش أند إم” على الصعيد العالمي، مع التركيز على سرعة استجابتها لتغيرات صيحات الموضة. شهدت هذه الفترة تحولًا في صناعة الأزياء، إذ انتقلت من المجموعات الموسمية إلى دورة مستمرة من المنتجات الجديدة، ما أثر بشكل كبير على سلوك المستهلكين.