أخبار لبنانإقتصادابرز الاخبار

عقدان ونصف من الخسارة قبل الإصلاح… هكذا ضاع البريد وضيعنا (نداء الوطن ٢٩ تشرين الأول)

يشكّل ملف البريد وتلزيم خدماته مجدّدًا، على مشارف ثلاثة عقود من تخلّي الدولة عن إدارة هذا القطاع منذ تأسيس “ليبان بوست”، أحد أبرز الملفات المثيرة للجدل منذ العام 2001. ففي هذا العام تحديدًا، بدأت مسيرة انحراف العقد الذي بني في العام 1998 على قاعدة الـ BOT “بناء وتشغيل ونقل ملكية”. فاختلّ لمصلحة الشركة بدلًا من الدولة، ومُدّد له سبع مرات متتالية بقرارات وزارية حتى العام 2023.

كان يُفترض أن ينتهي مسلسل هذا التمديد في شهر أيار من العام 2023، من خلال إنجاز عملية تلزيم جديدة للقطاع. إلّا أن محاولات هذا التلزيم، غرقت مرة أخرى في مستنقع تفصيل دفاتر الشروط على قياس المصالح الخاصة، فشكّل ذلك مدخلًا كرّس التمديد لليبان بوست مجدّدًا.

أقرّت الحكومة السابقة برئاسة نجيب ميقاتي في 16 تشرين الثاني من العام نفسه التمديد الثامن، وهذه المرّة من دون سقفٍ زمنيّ. فربطت فك الارتباط بهذا العقد بإتمام عملية تلزيم جديدة لمشغل بديل. وها نحن اليوم على مشارف انقضاء عام ثانٍ على هذا التمديد من دون أن ينفذ ذلك التلزيم.

فهل يفعلها وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج، ويُسجّل لوزارته طيّ صفحة ربع قرن من المحاباة، تحوّلت خلالها ليبان بوست عبئًا على المواطنين بدلًا من أن تكون مسهّلًا ليوميّاتهم؟ أم يحمّل الملف إلى حكومة ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة؟

كان يُفترض إثر قرار الحكومة السابقة، أن تنطلق وزارة الاتصالات فورًا بإعداد دفتر شروط مقبول لإتمام صفقة تلزيم القطاع لمشغل جديد. إلّا أنه بعد سنتين من أخذ وردّ رافق مسيرة التلزيم التي أطلقها الوزير السابق جوني القرم لهذا القطاع، وانتهت إلى مواجهات مباشرة مع هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة، قرّر الأخير أن إعداد دراسة جديدة للسوق تحتاج إلى تمويل بقيمة أربعة ملايين دولار، كما أنها قد تستغرق وقتًا طويلًا. فاكتفى القرم بتعديلات بسيطة على عقد ليبان بوست في تنفيذ مجتزأ لما تضمّنه قرار التمديد المتخذ، ولكنه وضع ملف التلزيم جانبًا، ولم يحرّك فيه ساكنًا طيلة الفترة المتبقية من ولايته.

حكومة الإصلاح بمواجهة اختبار البريد

استبشر المعنيّون خيرًا إثر تسلّم حكومة نواف سلام “الإصلاحية” مهماتها في مطلع العام الجاري. وتأمّلوا بدينامية جديدة في هذا الملف أسوة بسائر الملفات، تضخها حماسة الوزراء الجدد.

إلّا أن الضجة التي أثارتها الفوضى في مكاتب ليبان بوست في الأيام الماضية، أوحت بمسار مخالف للتوقعات. فما إن انطلقت الشركة بحملة إعلامية تسوّق لتحوّلها ممرًا للعديد من المعاملات الإدارية، بالتنسيق مع وزارات أساسية، منها وزارة المالية، وهيئة إدارة السير والأمن العام وغيرها، حتى أظهرت التجربة أنها فعليًا ليست على قدر المسؤوليات التي حمّلت لها.

فلماذا لم تنتظر الإدارة معالجة واقع قطاع البريد، لتنطلق مع الملتزم الجديد بصفحة بيضاء، بدلًا من أن تجعل المواطن يدفع ثمن إخفاقات هذا الملف لسنوات مضت؟ وأين أصبحت وزارة الاتصالات بالدعوة إلى عملية تلزيم جديدة لهذا المرفق؟

وفقًا لمعلومات صحافية، فإن البريد موضوع فعليًا على سلم أولويّات الوزير شارل الحاج، تمهيدًا لإطلاق مزايدة باتت قريبة جدًا تنقل إدارته إلى ملتزم جديد. وقد استعانت الوزارة بخبراء اختصاصيين في التحضير لدفتر الشروط الذي سينشر بموقع هيئة الشراء العام. وإن الوزارة حريصة على الأخذ بالتوصيات الصادرة عن ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام خلال محاولات التلزيم السابقة. وتؤكد المعلومات أن دفتر الشروط سيستند إلى دراسة جدوى شاملة وتحليل للسوق يُعدّهما استشاريون متخصصون، مع إعادة تقييم بدلات إشغال المرافق العامة وربطها بالمؤشرات الاقتصادية والتضخم.

تعديل ثالث يعيد توزيع الإيرادات… فهل يبدّد الشكوك؟

في المقابل، كشف مصدر معني في وزارة الاتصالات لـ “نداء الوطن”، عن تعديل ثالث خضع له العقد الموقع مع ليبان بوست، وقد صدر هذا التعديل عن مجلس الوزراء، وتشكل بنوده وحدة تؤمن التوازن بين الالتزامات والحقوق.

وإذا كانت ليبان بوست قد استفادت لسنوات من تخفيض بدلات الإيجار لمركزي فرز بيروت، في المطار وفي مركز رياض الصلح، بالإضافة إلى ما نعمت به مراكزها من إقامة مجانية في أبنية حكومية أو أبنية مشتركة، يوضح المصدر، “أن أية منفعة ممنوحة لأحد الطرفين في بند معين في عقد ليبان بوست، قد تمّ إقرارها على أساس بنود أخرى من العقد، وبالتالي لا يمكن فصلها عن سياقها أو قراءتها بشكل مستقل، إذ إنها صيغت كحزمة واحدة ضمن التوازن التعاقدي العام الذي اتُفِق عليه عند إبرام العقد”.

ولفت المصدر في المقابل إلى رفع حصة وزارة الاتصالات من إيرادات ليبان بوست من 5 % إلى 12 %، وهذا ما رأى أنه سينعكس زيادة مباشرة في إيرادات الدولة من هذا القطاع. وأكد أن هذه الزيادة شملت الخدمات البريدية وغير البريدية، وإنما بطريقة احتساب مختلفة. على أن تخضع الشركة إلى طريقة تحاسُب سنوي منتظم، تتيح مراجعة البيانات المالية وتطابقها بين الطرفين في نهاية كلّ سنة. ما يعزز برأيه “الرقابة والشفافية في تحديد حصة الدولة المستحقة وضمان عدم تراكم مستحقات غير مُسدَّدة”.

إلّا أن هذه الخطوات الإصلاحية لعلاقة الشركة بالدولة، لم تترافق على ما ظهر في الأيام الماضية، مع إصلاح داخلي تلجأ إليه الشركة، وخصوصًا في ما يتعلّق بكادرها الوظيفي وتجهيزاتها اللوجستية، كي تتمكّن أقله من مواكبة الامتيازات التي حصلت عليها، نتيجة انخراطها في إنجاز المعاملات الإدارية. فضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل في الأسابيع الماضية بشكاوى من أداء الشركة.

البريد الذي “عَمَاها” بدلًا من أن “يُكحّلها”

لا إمكانية حاليًا لإنجاز أي معاملة سريعة في “ليبان بوست”، وساعات الانتظار طويلة جدًا، بحسب شهادات المواطنين. والعرقلة لا تطول فقط الخدمات التي نقلتها الدولة إلى الشركة، بل تمتد أيضًا إلى البريد العادي والمكفول، ما أحدث إرباكًا وتأخيرًا حتى في تطبيق بعض القرارات والقوانين مؤخرًا، ومن بينها قانون الإيجارات للوحدات غير السكنية الذي دخل حيّز التنفيذ، ويشترط البريد المكفول كممرّ أساسي لتبليغ المستأجرين والتواصل القانوني معهم.

وهكذا إذًا، بدلًا من أن “تكحّلها” “الإدارة العامة” بالاستعانة بالبريد لتسهيل معاملات المواطنين، “عمتها ليبان بوست”، فتحوّلت إلى أزمة إضافية تضاف إلى أزمات اللبنانيين.

في المقابل، لم يتضح بعد ما إذا كانت الشركة قادرة، أو حتى لديها الرغبة في تصحيح هذا الخلل في أدائها، خصوصًا أنها اليوم في موقع تأمين “استمرارية العمل” في المرفق بظروف انتقالية. وملفها الذي يعاني التخبط، إداريًا، قضائيًا وماليًا، قد لا يسمح لها بالمشاركة في أي مزايدة جديدة تطرح. وهذا ما يمكن أن يشكل دافعًا لأن تقلّص الشركة كلفتها بما يضمن لها الربح في الفترة المتبقية من عقدها الممدّد.

رسالة إصلاحية مؤجّلة من الدولة إلى نفسها

في المحصّلة إذًا، يدفع المواطن ثمن التراكمات التي أصابت هذا القطاع منذ العام 2001 وحتى اليوم. وبعدما كانت الدولة الخاسر الأكبر من عقدها المعدل مع بريد لبنان لسنوات، بات المواطن أيضًا ضحيته. بينما المشكلة وفقًا لأوساط متابعة للتفاصيل، ليست في ليبان بوست بحدّ ذاتها، وإنما في طريقة إدارة هذا الملف، والتي جعلت الدولة من خلال حكوماتها المتعاقبة في موقع محاباة تامة مع الشركة، وغالبًا بدوافع تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.

يكشف تقرير خاص صدر عن ديوان المحاسبة في العام 2021 هذه المفارقة الصارخة. ففي العام 1997، أي قبل تلزيم إدارة البريد للقطاع الخاص، كانت الخدمة البريدية تؤمّن للخزينة العامة 5.5 ملايين دولار أميركي سنويًا، علمًا أنها كانت المرحلة الأولى التي تبعت الحرب الأهلية، وما تسبّبت فيه من خراب في معظم بنية الدولة. أما بعد التلزيم، فلم تؤمّن الخدمة على مدى عشرين عامًا سوى 3.4 ملايين دولار، أي بمتوسط يعادل 170 ألف دولار سنويًا فقط.

كان يفترض بهذا التقرير أن يدق ناقوس الخطر لاستعادة الدولة إدارة القطاع. ولكن بدلًا من ذلك، كرّرت وزارة الاتصالات في الحكومة السابقة محاولتها للإبقاء على الوضع القائم، عبر دفاتر شروط مفصّلة على مقاسات مطلوبة. فتصدّت الهيئات الرقابية لهذه المناورات بصلابة، رغم كل الضغوط التي مورست.

وبدا مستغربًا طيلة هذا الوقت بالنسبة لمتابعي هذا الملف، استبعاد خيار استرداد القطاع وتشغيله كمؤسّسة عامة، كما ينصّ عليه عقد الـ BOT الأول. علمًا أنه إذا كانت ذريعة الوزير القرم في البداية أن مثل هذا التشغيل بحاجة إلى مصاريف وكوادر بشرية، فإن الفوضى التي شهدتها مختلف فروع ليبان بوست في الأيام الماضية تعكس حالة ترهّل مشابهة تسود في الشركة.

هكذا إذًا، بعد قرابة ثلاثة عقود من التجارب الفاشلة والتمديدات المتكرّرة، يتبيّن أن الخلل منذ البداية لم يكن في العقد وحده، بل في الإرادة السياسية لاستعادة المرفق العام. وهو ما سمح لـ “ليبان بوست” بأن تستمرّ بتوزيع رسائل التأجيل باسم الدولة. فهل يُكسر هذا النمط مع الحكومة الأولى في عهد الرئيس جوزاف عون؟ أم يبقى قطاع البريد في لبنان، شاهدًا على دولة اعتمدت نهج تأجيل الإصلاح لسنوات طويلة، وبأعذار لا يمكن أن تقنع حتى مطلقيها؟

بواسطة
لوسي بارسخيان
المصدر
نداء الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى