أخبار لبنانابرز الاخبارتكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي يطرق أبواب الصف اللبناني

كيف يمكن للمدرسة اللبنانية أن تواكب عصر الذكاء الاصطناعي فيما لا تزال تواجه تحديات الكهرباء والإنترنت؟ وهل يستطيع الطالب أن يتعلّم التفكير النقدي في زمن الإجابات الجاهزة؟ هذه الأسئلة شكّلت محور الحوار الذي أجرته “النهار” مع الخبيرة التربوية في التعليم والتدريب ليال غدار، التي عرضت رؤية شاملة حول إدماج أدوات مثل “تشات جي بي تي” في المناهج والامتحانات، وكيفية صوغ سياسات تحافظ على خصوصية الطلاب وتحصّنهم من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا.

ترى غدار أن تصميم وحدات دراسية تراعي دمج الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يقتصر على اعتباره وسيلة مساعدة، بل يجب أن يتحوّل إلى جزء من نواتج التعلّم الأساسية. وهذا يعني أن تبنى الوحدات حول تنمية قدرات المتعلمين على التفاعل النقدي والإبداعي مع هذه الأدوات، من خلال تعلّم صياغة الأسئلة بذكاء، وتقييم الإجابات بدقة، واعتماد سلوكيات رقمية أخلاقية، والعمل التعاوني لحل المشكلات. في مواد اللغات مثلًا يمكن للطلاب أن يشاركوا في كتابة مقالات بالتعاون مع “تشات جي بي تي” ثم يعيدوا صياغتها بأسلوبهم الخاص، وفي التاريخ يمكنهم مقارنة السرديات التي يولّدها الذكاء الاصطناعي بالمراجع المعتمدة لاكتشاف الفجوات أو التحيزات، أما في العلوم فقد يستعينون به لاقتراح فرضيات ثم اختبارها، وفي الرياضيات لتحليل الحلول والتأكد من صحتها. وهنا يصبح التقييم مبنيًا على مسار التعلّم لا على المنتج النهائي وحده، باستخدام معايير واضحة تبرز التفكير النقدي والسلوك الأخلاقي والإبداع، بما ينسجم مع توجهات المناهج اللبنانية في تعزيز الكفايات العابرة مثل البحث والإبداع والمواطنة الرقمية.

وعن مسألة التفكير النقدي مقابل الاعتماد الآلي، تشير غدار إلى أن الانتشار السريع لاستخدام الذكاء الاصطناعي بين الطلاب يفرض على المعلمين ضمان أن يظل التفكير الشخصي والتحليل المستقل جزءًا أساسيًا من عملية التعلّم، بدلًا من أن يعتمد الطالب على الناتج الجاهز للأداة. وتؤكد أن ذلك يتحقق عبر تحويل “تشات جي بي تي” من مجرد أداة للإجابات إلى منطلق للحوار والنقاش. يمكن مثلًا توجيه الطلاب لمقارنة ما يولّده الذكاء الاصطناعي بالمصادر الموثوقة، وتحليل أوجه القوة والضعف فيه، أو إعادة صياغة النصوص بأسلوبهم الخاص وربطها بخبراتهم وسياقهم المحلي. بهذه الطريقة يصبح الذكاء الاصطناعي محفزًا للتفكير لا بديلًا عنه، وتترسخ معايير تقييم تركّز على خطوات البحث والقدرة على التبرير ومهارات النقد والتحليل.

أما على صعيد التقييم والامتحانات، فتشدّد غدار على أن النظام التقليدي القائم على الحفظ والتكرار لم يعد صالحًا في زمن الذكاء الاصطناعي. المطلوب الانتقال إلى تقييم المهارات والكفايات مثل التحليل النقدي وحل المشكلات والتفكير الإبداعي. فبدلًا من أسئلة الاختيار من متعدد، يمكن اعتماد مشاريع قصيرة أو بحوث تحليلية أو أسئلة مفتوحة تطلب التفسير والتبرير، بحيث يصبح من الصعب الاعتماد على إجابات الذكاء الاصطناعي مباشرة من دون فهم حقيقي. وتلفت إلى أهمية التقييم المستمر والأنشطة الصفية التفاعلية والعروض والنقاشات، حيث يركّز المعلم على عملية التفكير والتحليل الشخصي، فضلًا عن إدخال اختبارات ميدانية وشفوية تظهر شخصية الطالب المستقلة. وتضيف أن من الضروري تحديث أنظمة الرقابة وصوغ سياسات واضحة حول استخدام الذكاء الاصطناعي، إلى جانب تدريب الطلاب على الاستخدام المسؤول والأخلاقي للأدوات الرقمية.

لكن كل هذه الطموحات تصطدم بواقع تقني صعب، إذ تواجه المدارس اللبنانية ضعف الإنترنت ونقص الأجهزة، ما يعرقل إدماج الذكاء الاصطناعي في الصفوف. ومع ذلك، ترى غدار أن الحلول ممكنة، عبر تحسين البنية التحتية الرقمية تدريجيًا، وتوفير منصات تعليمية محلية منخفضة الكلفة، وتطبيق خطط عملية لتجهيز المدارس بما يسمح بالعدالة بين مختلف المناطق والفئات.

ويبقى ملف الخصوصية والأخلاقيات حاضرًا بقوة في حديثها. فمعظم أدوات الذكاء الاصطناعي تعتمد على خوادم خارجية، ما يستدعي وضع سياسات واضحة ومكتوبة تعلن للجميع، وتحدد الغرض من استخدام هذه الأدوات والبيانات التي ستُجمع، وتحذّر من مشاركة أي معلومات شخصية حساسة. كما تدعو غدار إلى تثقيف الطلاب والمعلمين حول حقوق الملكية الفكرية، واحترام الحدود الأخلاقية في الاستخدام، واعتماد إجراءات تقنية تقلل من المخاطر، مثل استخدام حسابات مدرسية مخصصة وتجنّب مشاركة أسماء الطلاب وبياناتهم الشخصية، إضافة إلى مراجعة دورية للسياسات بما يتماشى مع القوانين المحلية والدولية. وتعتبر أن العنصر الأهم هو تعزيز وعي الطالب والمعلم على حد سواء، بحيث يدركان أن الهدف من الذكاء الاصطناعي ليس استبدال التفكير، بل دعمه وتطويره.

في ختام حديثها، تؤكد ليال غدار أن مستقبل التعليم في لبنان لن يكون بمعزل عن الذكاء الاصطناعي. النجاح هنا لا يقاس بمدى منع هذه الأدوات أو السماح بها، بل بقدرة المنظومة التربوية على تحويلها إلى فرصة لتعزيز التفكير النقدي والإبداعي لدى الطلاب. وبهذا، يمكن للمدرسة اللبنانية أن تخرّج جيلًا واعيًا ومسؤولًا، قادرًا على التعامل مع التكنولوجيا بعقل نقدي وروح ابتكارية، لا كمستهلك سلبي بل كمستخدم مبتكر يشارك في صياغة المستقبل.

المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى