من سايكس – بيكو إلى باراك: شرق أوسط بوظائف جديدة (اللواء ٤ تموز)

في تصريحه اللافت لقناة NTV التركية، أشار السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، طوم باراك، إلى أن «كل هذه الحدود تعود إلى سايكس – بيكو، إلى اتفاقية سيفر، إلى كل تلك الحدود الفاشلة. لقد حان الوقت لإعادة التوزيع والتوصل إلى اتفاق جديد».
هذا التصريح، الذي ربما مرّ على كثيرين مرور الكرام، يحمل دلالات عميقة تتعدّى سياق الكلام، وتفتح الباب واسعاً أمام التساؤل: هل نحن أمام سايكس – بيكو جديدة؟ وهل يشمل هذا «إعادة التوزيع» لبنان أيضاً، خصوصاً أن باراك بات ممسكاً بملفي سوريا ولبنان معاً؟
في عام 1916، وقّعت كل من بريطانيا وفرنسا (وبموافقة روسيا القيصرية) اتفاقاً سرياً لتقسيم أراضي السلطنة العثمانية في المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى. عُرفت هذه الاتفاقية باتفاقية «سايكس – بيكو»، على اسم الدبلوماسيين البريطاني والفرنسي اللذين أبرماها. وقد أدّت الاتفاقية إلى توزيع النفوذ في المشرق العربي بين لندن وباريس، فأُعطيت سوريا ولبنان لفرنسا، والعراق وفلسطين وشرق الأردن لبريطانيا.
كانت سايكس – بيكو بمثابة التأسيس الأوّلي لحدود الدول التي نعرفها اليوم، بما في ذلك لبنان وسوريا والعراق، على حساب الهويات الوطنية الجامعة أو القومية العربية التي كانت تطمح إلى وحدة إقليمية أو سياسية شاملة. وهكذا تأسست هذه الدول بحدود قائمة على تقاسم نفوذ بين الدولتين الحليفتين، وكثيراً ما قيل إنها لم تُرَسَّم بناءً على اعتبارات جغرافية أو اجتماعية، بل خدمةً للمصالح الاستعمارية.
حين يستحضر السفير الأميركي طوم باراك هذا الإرث الاستعماري، فهو لا يفعل ذلك من باب الاستذكار الأكاديمي، بل من موقع القوة، وبهدف التمهيد لمرحلة جديدة من إعادة ترتيب خرائط النفوذ والحدود في المنطقة. فباراك ليس دبلوماسياً تقليدياً، بل هو رجل أعمال نافذ وصديق مقرّب للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقد أُوكلت إليه مهمة خاصة: الإشراف على إعادة تموضع تركيا وسوريا – ومعهما لبنان لاحقاً – ضمن هندسة سياسية جديدة للشرق الأوسط.
تصريحه حول «فشل الحدود الحالية» يتناغم مع مهامه الجديدة التي تشمل إعادة تركيب العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، فرض ترتيبات أمنية في سوريا ترضي واشنطن وتخدم مصالح الإسرائيلي، وممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية لفرض واقع جديد يتمثل بانضمام مزيد من الدول العربية الى الاتفاق الإبراهيمي.
تعتبر سوريا اليوم ميدان التجربة الأبرز لإعادة توزيع النفوذ وحدود السيطرة. منذ عام 2011، تفككت بنية الدولة المركزية السورية، وتوزعت السيطرة بين قوات النظام، الفصائل المسلحة، القوات الكردية، القوى الأجنبية (روسيا، إيران، تركيا، الولايات المتحدة)، والمجموعات الجهادية.
باراك يسعى، من خلال موقعه كمبعوث خاص، إلى تثبيت هذا التفكك عبر صيغ جديدة: تطبيع بين دمشق وتل أبيب، إنشاء منطقة حكم ذاتي كردية شمال سوريا على غرار كردستان العراق، وتمكين فصائل مدعومة من أنقرة في إدلب.
لكن اللافت في هذا السياق هو أن القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تعد تخفي نيّتها في تثبيت الأمر الواقع وتطويعه لصالح مشاريع طويلة الأمد. التصريحات عن «فشل الحدود» تأتي في هذا الإطار، إذ يُعاد تشكيل الخريطة السياسية والعسكرية السورية بطريقة تنزع عنها مركزيتها السابقة، وتفتح الباب أمام خرائط جديدة.
رغم أن تصريحات باراك تركّزت على سوريا وتركيا، فإن تعيينه ممسكاً أيضاً بالملف اللبناني ليس تفصيلاً هامشياً. فلبنان، الذي نشأ كدولة بموجب اتفاقيات سايكس – بيكو وتحت الرعاية الفرنسية، يمرُّ اليوم بأزمة بنيوية تهدّد وجوده السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
باراك، عبر نفوذه في الملف السوري، يمتلك أوراقاً ضاغطة على الساحة اللبنانية أيضاً: ملف اللاجئين السوريين، ملف ترسيم الحدود البحرية، العلاقة مع حزب الله، مستقبل النظام الطائفي، والاستحقاقات السياسية الكبرى.
وإذا ما ربطنا ما يجري في سوريا بما قد يُحضّر للبنان، فإن السؤال لا يبدو مبالغاً فيه: هل نحن أمام هندسة إقليمية جديدة، تشمل إعادة تعريف الكيانات وحدود السيادة؟ وهل سيبقى لبنان محصّناً أمام هذه المتغيّرات؟
منذ أكثر من عقد، كثر الحديث عن «سايكس – بيكو جديدة» في الإعلام والدوائر الأكاديمية والسياسية. غير أن ما يجري اليوم لا يبدو مجرد «نظرية مؤامرة»، بل تحوّلاً حقيقياً في الرؤية الغربية للمنطقة. فالحدود التي رسمتها فرنسا وبريطانيا قبل أكثر من قرن، تُعاد اليوم صياغتها.
وإذا كانت سايكس – بيكو قد رسمت حدود النفوذ بين الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية، فإن المرحلة الحالية ترسم حدود الوظيفة: من يحمي المصالح الغربية؟ من يطبع مع إسرائيل؟ من يفتح أراضيه للأسواق والتكنولوجيا الغربية؟ من يقبل بالأدوار الأمنية الموكلة إليه؟ فالمسألة لم تعد فقط جغرافيا، بل أدوار سياسية وعسكرية واقتصادية.
ما لم يُعلَن رسمياً، بدأ يُطبّق فعلياً. سوريا مقسّمة عملياً إلى مناطق نفوذ، ولبنان غارق في أزمة تهدّد وحدته. العراق يعاني من الفدرالية المتعثرة. والأردن يتحسس موقعه بين الحلفاء والخصوم. وفي هذا المشهد، يصبح تصريح باراك عن «الحدود الفاشلة» إعلاناً سياسياً واضحاً: واشنطن تخطط لرسم خرائط جديدة، وقد تكون البداية من سوريا، لكن لبنان أصبح معنياً أيضاً بعد توسّع مهام السفير باراك.
إنها لحظة مفصلية في تاريخ المشرق، فقد تُكتب خرائط جديدة فوق أنقاض الخرائط القديمة.